الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.مطلب في إيمان أبي طالب وسبب استغفار ابراهيم لأبيه وكذب ما نقل عن ابن المقفع وقصة المخلفين الثلاثة وتوبتهم: ومما يدل على إيمانه سر الأبيات التي نقلها عنه أهل بيته وغيرهم في مدح ما علمه حضرة الرّسول وهي:الأبيات المارة في [الآية 57] من سورة القصص لأن قوله فيها: أي مجاهرا به على رؤس الأشهاد وما أخفيته، مما يدل على أنه مؤمن فيما بينه وبين ربه، لا أنه سرّ أخاه العباس بالإيمان خفية عن قومه، بل اعترف له بالإيمان قبل وفاته وأن الذي نزل في أبي طالب هو قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية المذكورة في سورة القصص.والصّحيح في هذا أن المسلمين لما رأوا رسول اللّه يستغفر لوالديه وجده عبد المطلب صاروا يستغفرون لموتاهم المحقق موتهم على الكفر، فأنزل اللّه هذه الآية ينهاهم بها عن الاستغفار لهم.ثم أنه تعالى أجاب عما وقع في قلوبهم من استغفار إبراهيم عليه السّلام لأبيه وقالوا إذا كان إبراهيم يستغفر فلما ذا لا نستغفر لموتانا، لأنهم ووالد ابراهيم في الكفر سواء بقوله عز قوله: {وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ} بأن يؤمن به لا عبثا ولا قصدا مع العلم ببقائه على كفره ولا عن شيء آخر.وقرأ بعضهم أباه بالباء الموحدة ومنهم الحسن، ولكن لا عبرة بها لأن كلّ ما هو مخالف لما في الصّحف لا يلتفت إليه، لأنه على هذه القراءة يكون إبراهيم الذي وعد بالاستغفار، والحال أن أباه هو الذي وعده بالإيمان، ولذلك صار يستغفر له على أمل إيمانه دون وعد منه بل لحق الأبرة.وما قيل إن ابن المقفع صحف ثلاثة أحرف بالقرآن العظيم هذه الياء بالباء، وعين عزّة وشقاق الآية الثانية في سورة ص ج1 بالغين المعجمة والرّاء بدل الزاي، فتصير (غرّة) وغين (يغنيه) من قوله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [الآية 38] من سورة عبس بالعين المهملة، فيصير يعنيه، فقيل كذب، ونقل زور، وكلام بهت لا يلتفت إليه إلّا ضعيف اليقين قليل العقيدة باللّه تعالى الذي تعهد بحفظ كلامه من التبديل والتغيير.ومن هذا ابن المقفع حتى يجرؤ على ذلك وهو في أهل زمن لا يجرؤ أن ينبس بنبت شفة على كتاب اللّه تجاه أهله الذي أجمعت عليه الأصحاب بعد رسول اللّه، والتابعين من بعدهم، واقتفى أثرهم اجماع علماء الأرض، فلو حدثته نفسه بذلك هل يقرونه عليه؟ كلا، بل لقطع منه الحلقوم، وهذا القرآن كما بيناه في الآية المذكورة من الحجر وفي مواضع أخرى مبينة فيها أن جميع ما بين الدّفتين الموجود الآن هو كلام اللّه تعالى بتمامه وحروفه كما أنزله لم ينقص منه حرف، ولم يزد فيه حرف، ولم يبدل منه حرف واحد أبدا، راجع تفسير آخر سورة الأحزاب المارة وما ترشدك إليه، وفي المقدمة في بحث نزول القرآن تجد ما تكتفي به.وهذا الاستثناء في الآية هذه مفرّغ من أعم العلل أي ما كان استغفار ابراهيم عبثا ولا لعبا ولكن عن موعدة من أبيه له بالإيمان به وبربه ولذلك استغفر له عما سلف منه إذا هو آمن {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ} مصر على كفره به.وهذا العلم جاء لابراهيم بطريق الوحي من ربه عز وجل أو الإلهام أو بواسطة الملك {تَبَرَّأَ مِنْهُ} وهذا يدل دلالة صريحة على صدور الوعد من آزر لابنه ابراهيم بالإيمان باللّه وحده كما يفهم من نسق الآية وسياقها لا من ابراهيم له بالاستغفار، لأن وعد ابراهيم له كان بعد ذلك ولهذا علّفه على إيمانه، قال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا} [الآية 46] من سورة مريم كما أيده اللّه تعالى في هذه الآية المفسرة ثم أكد ما كان عليه عليه الصّلاة والسّلام من الخلق الكريم بقوله: {إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ} كثير التأوه فرقا من ربه جليل الخوف خشية منه رقيق القلب خاشع خاضع متضرع {حَلِيمٌ} [114] صفوح عن الأذى صبور على البلاء لا يقابل أحدا بما يكره، ولا السّيئة بالسيئة، بل يعفو ويكظم يقول له أبوه لأرجمنك ويقول له السّلام عليك [الآية 48] من مريم وقد تأسى نبينا صلّى اللّه عليه وسلم بكل أخلاق الأنبياء قبله كما أعطي معجزاتهم كافة، وكان من كرم خلقه العفو والسّفح، ولذلك جاء الإسلام وسطا في الأخلاق بين الأفراط والتفريط، والتقريب بين المثل الأعلى والواقع، وانسجام بين العقل والغريزة التيهي قوة مع رحمة، وحكم مع عدل، وتواضع مع عزّة، ومساواة مع تسامح، وتشاور مع عزم، ولين مع حزم، راجع [الآية 161] من آل عمران تجد ما يتعلق بهذا، قال تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا} بسبب استغفارهم لمشركين {بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ} للايمان، وسبب نزول هذه الآية هو أن اللّه تعالى لما نهى المؤمنين عن الاستغفار لآبائهم المشركين خافوا عاقبة ما صدر منهم وصاروا يضربون أخماسا بأسداس على ما فرط منهم، فأنزل اللّه هذه الآية تطمينا لهم بعدم المؤاخذة وتطبيبا لخواطرهم، وإعلاما بأن ما وقع منهم لا يضرّهم ولا يعاقبهم اللّه عليه، لصدوره قبل النّهي بتأويل منهم، وحاشا رحمة اللّه أن يعذب قبل أن ينهى أو يريد قبل أن يأمر بالنسبة للظاهرة، ولهذا ختم هذه الآية بقوله: {حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ} [115] الخوض فيه وما يستحبونه فكل ما وقع منهم قبل البيان لا يؤاخذون عليه، أما بعده فمفوض لمشيئة اللّه تعالى ولهذا يتقدم لهم بالإنذار والإعلام حتى لا تبقى لهم معذرة إذا اقترفوا شيئا مما نهوا عنه بعد البيان فيؤاخذوا عليه ويعاقبوا، وحاشا أصحاب رسول اللّه من الاقدام على شيء نهاهم اللّه عنه أو كرهه لهم: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [116] قبل ظهوره لخلقه علما حقيقيا لا كعلم السّحرة والكهنة الصّورى والمموّه الكاذب فإنه لا يلتفت إليه، قال: فالعلم الذي هو العلم لا ينسب إلّا إلى اللّه العالم بكل شيء، ومن علمه هذا ما خالطته نفوس أصحاب رسول اللّه من الخوف عما صدر منهم ما ثلج صدورهم بما أنزله في هذه الآية وأزال ما كان يتردد فيها.هذا وإن ما قاله الكلبي ومقاتل بأن قوله تعالى: {حَتَّى يُبَيِّنَ} إلخ نزلت في أمر النّاسخ أي حتى يتبين لهم المنسوخ بالناسخ وذلك أن هناك أشياء كثيرة كانت عندهم قبل الإسلام يعدونها حلالا ولا بأس بها، منها ما ابتكروها ابتكارا من عند أنفسهم، ومنها ما تلقوها عن أسلافهم فقلدوهم فيها ومنها ما اقتفوا بها آثار أهل الكتابين كوأد البنات، وقتل غير القاتل وشرب الخمر، ومنع النّساء من الإرث، وكذلك الأولاد والصّغار، وتحريم السوائب، والوصائل وتحليل أكل بعض الحيوان للرجال دون النّساء، وغيرها ما ذكر اللّه في سورة الأنعام والمائدة والبقرة وغيرها، ومن هذا القبيل توجه الإسلام في الصّلاة إلى الكعبة بدلا من بيت المقدس، أي ما كان اللّه ليبطل أعمالكم بالنسوخ حتى تبين لكم نزول النّاسخ فتعملوا به، وهذا لعمري بعيد عن الصّحة، لأن هذه الآية عامة وكثير مما نهوا عنه لم ينزل فيه ناسخ، ولم يكن النّاسخ إلا عن شيء نزل قيل بكتاب سماوي فلا يشترط له النّاسخ، لأن النّسخ معناه نسخ نص سابق بنص لا حق ولا يوجد فيما اعتادوه قبل الإسلام نص سماوي، لذلك لا يلتفت لهذا القول، ولا يعقل قول المؤمى إليها به.وعلى كلّ فلا قيمة له ولا عبرة به، تأمل، وراجع بحث النّاسخ والمنسوخ في المقدمة تقف على ذلك.قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} يأمر من فيهما بما يشاء وينهى عما يشاء لا يقيد شيء دون آخر في كلّ ما فيهما وما بينهما وما فوقهما وتحتهما {يُحْيِي وَيُمِيتُ} من فيهما ويغني ويفقر ويعظم ويحقر، لا راد لما يريد، ولا معطى لما منع {وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أيها النّاس قويكم وضعيفكم {مِنْ وَلِيٍّ} يلي أموركم غيره {وَلا نَصِيرٍ} [116] يمنعكم منه أو يحول دون إرادة ما قدر إيقاعه فيكم لأن مقدراته نافذة عليكم بآجالها لا تقدم ولا تؤخر ثم أنزل جل إنزاله ما يتعلق بالمتخلفين الصّادقين والثلاثة الآتي ذكرهم، فقال جل قوله: {لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ} وقت غزوة تبوك المار ذكرها لما فيها من بعد الشّقة وقلة السّلاح والرّكوبة فضلا عن أنها كانت زمن الحرّ والجدب {مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} على الثبات مع حضرة الرّسول لتلك الأسباب واشتداد الضنك حتى كان العشرة منهم يتعاقبون على الرّاحلة الواحدة في الرّكب وفي الزاد حتى كان الرّجلان يقتسمان التمرة وفي الماء حتى شربوا عصير كروش الإبل وفي الزمن حتى كان الجماعة يظللون أنفسهم بعباءة واحدة من هجير الشّمس، وفي المكان من البعد حتي شارف بعضهم على الهلاك من التعب قيل الوصول المرحلة وفي كلّ شيء في هذه الغزوة عسر ومشقة وقلة لم يلاقوها في جميع غزواتهم، ولهذا سميت غزوة العسرة وامتحن فيها من امتحن فنجى من نجى بحسن نيته وهلك من هلك بسوئها {ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ} وتجاوز عن زلتهم وخطئهم، وعفا عمّا همّ به بعضهم من ترك الرّسول والتخلي عنه وما اعتراهم من الضّجر، وإنما كرر فعل التوبة لزيادة التأكيد والتطمين لهم بالصفح عما وقع منهم كله من قول وفعل ونية وهم وعزم {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} [117] لأنهم من خلص عباده فرأف بهم ورحمهم ودفع عنهم ما لا يطيقون بكرمه وحنانه، ودفع عنهم ما عجزوا عنه بمنه ولطفه وتاب عليهم برده وعطفه.والفرق بين الرّأفة والرّحمة أن الرّجل قد يرحم من يكرهه ولا يرأف به، فالرحمة عامة، والرّأفة خاصة بمن يحب.والمراد من توبته على حضرة الرّسول لاقدامه على أمرين في هذه الغزوة لم يتلق فيها شيء من ربه، الأوّل أذنه المنافقين بالتخلف الذي عاتبه عليه في [الآية 23] المارة بقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} الآية، الثاني توبته على المهاجرين والأنصار بما وقع في قلوبهم من الميل إلى التخلف في هذه الغزوة ولما وقع في قلوب بعضهم بأنهم عاجزون عن قتال الرّوم، مع أنهم كانوا سبعين ألفا ذهب منهم مع حضرة الرّسول ثلاثون ألفا فقط كما تقدم في القصة عند تفسير [الآية 46] المارة وقد ورد أن الجيش إذا بلغ اثني عشر ألفا لا يغلب عن قلة، وكلاهما من باب ترك الأفضل، فلا يعد ذنبا كما بيناه في [الآية 67] المارة في سورة الأنفال، فتكون الأمور التي فعلها حضرة الرّسول طيلة حياته دون وحي ربه هي ثلاثة فقط (هاتان وقبول الفداء) في أسرى بدر المار ذكرها في [الآية 67] المارة آنفا من الأنفال.هذا وقد أظهر اللّه على يد رسوله في هذه الغزوة معجزات كثيرة، منها ما ذكر في القصة المارة في [الآية 46] ومنها فيما بعدها في هذه السّورة، ومنها ما أسنده الطّبري عن عمر رضي اللّه عنه قال إن أبا بكر قال يا رسول اللّه إن اللّه عوّدك في الدّعاء خيرا فادع اللّه أن يعطينا ماء، وذلك لشدة ما لحقهم من الظّمأ، قال أتحب ذلك؟قال نعم، فرفع يديه صلّى اللّه عليه وسلم فلم يرجعا حتى أرسل اللّه سبحانه وتعالى سبحانه فمطرت فملأوا ما معهم من الأدلية، ثم ذهبنا ننتظر فلم نجدها جاوزت المعسكر.قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} تاب اللّه عليهم أيضا وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الرّبيع الأنصاريّون، وهم المعنيون بقوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [الآية 116] المارة، وهذه الآية معطوفة على الآية الأولى، أي لقد تاب اللّه على النّبي إلخ وعلى الثلاثة إلخ وفائدة هذا العطف هو أن ما ذكر من ضم توبته إلى توبة الرّسول كان دليلا على تعظيمه وإجلاله، وهذا العطف يوجب أن يكون قبول توبة النّبي صلّى اللّه عليه وسلم وتوبة المهاجرين والأنصار في حكم واحد، وذلك يوجب إعلاء شأنهم وكونهم مستحقين لذلك {حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} من شدّة الحزن والهم والغم والجفوة {وَظَنُّوا} تيقنوا وتحنقوا مما رأوا من عدم الالتفات إليهم {أَنْ لا مَلْجَأَ} لهم يلجأون إليه {مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} وحده لا أحد ينجيهم مما هم فيه إلّا هو تعالى: {ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ} ورحمهم لعلمه بصدق نيتهم فيما سبق في علمه الأزلي وعطف عليهم بقبول التوبة {لِيَتُوبُوا} في المستقبل عما يصدر عنهم كما يتوبوا عما صدر منهم قبلا فيكونون في كلّ أحوالهم تائبين وينيبون لجلال ربهم عن صدق واخلاص ونصح وحسن نية ويرجعوا إلى ربهم وطاعة رسولهم: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ} على عباده الرّاجعين إليه المنان عليهم من فضله {الرَّحِيمُ} [118] بهم وإن ذكر صفة الرّحيمية بعد صفة التوابية يشير إلى أن قبول التوبة لأجل محض الرّحمة والكرم والفضل لأجل الوجوب عليه إذ لا واجب على اللّه لعبيده سواء في توبتهم أو في أعمالهم وأقوالهم.
|